الذكرى الــ63.. - شبكة صحتك

الذكرى الــ63..

جوجل بلس

يقول المتخصصون في التاريخ الفلسطيني إن مجزرة كفر قاسم نفذت ضمن خطة تهدف إلى ترحيل فلسطينيي منطقة “المثلث الحدودي” (بين فلسطين 1948 والضفة الغربية التي كانت آنذاك جزءا من الأردن) التي تقع فيها بلدة كفر قاسم، بواسطة ترهيب سكانها على غرار مذبحة دير ياسين ومجازر أخرى.

ويؤكدون أن “إسرائيل” -التي لم تحتمل العدد الكبير لسكان هذه المنطقة من العرب- قتلت بدم بارد خلال 1949-1956 ثلاثة آلاف فلسطيني معظمهم ممن حاولوا العودة بعد تهجيرهم إلى بلدان الجوار، وقد تولت تنفيذ هذه المجازر وحدة خاصة بقيادة أرئيل شارون عُرفت باسم “101”.

وفي أجواء القتل هذه وهيمنة عقلية المجازر في “إسرائيل” جاءت مذبحة كفر قاسم التي نفذت “إسرائيل” قبيلها كل من مجزرة يوم 11 سبتمبر/أيلول 1956 حيث قتلت 20 جنديا أردنيا في هجوم على معسكرهم، ثم قتلت 39 فلسطينيا بقرية حوسان في قضاء بيت لحم، و88 آخرين في قلقيلية في نفس الشهر.

ورغم أن هذه المجازر -ونظائرها مما سبقها أو لحقها-  تقارب في بشاعتها مجزرة كفر قاسم أو تفوقها أثرا؛ فإن السياق السياسي الذي حدثت فيه الأخيرة أعطاها بعدا أكبر، وذلك لتزامنها مع أول أيام العدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا و”إسرائيل” على مصر، بعد أن أعلن الرئيس المصري جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس.

فقد استغلت قوات الاحتلال الإسرائيلي المسماة “حرس الحدود” انشغال العالم بحرب السويس لتنفيذ هذه المجزرة البشعة، وعند تنفيذها طوقت القوات الإسرائيلية البلدة من جهات ثلاث بينما أبقت الجهة الشرقية نحو الضفة الغربية مفتوحة، مما يعكس عزم الاحتلال على تهجير سكانها.

تفاصيل الحادثة

بدأت المجزرة عندما أعطت قيادة جيش الاحتلال الإسرائيلي أمرًا يقضي بفرض حظر التجول على القرى العربية في “المثلث الحدودي” الذي يمتد من أم الفحم شمالا إلى كفر قاسم جنوبا، بدءا من الخامسة مساء يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول 1956 وحتى السادسة من صباح اليوم التالي.

وكان القرار حازما إذ أرفِق بقرار أمني يخوّل الجنود إطلاق النار وقتل كل من يتجول بعد سريان الحظر -وليس اعتقاله- حتى ولو كان خارج بيته لحظة إعلان منع التجول، لأن قيادة الجيش كانت تقول “إنها لا تريد التعامل مع السكان بالعواطف”.

وُزعت قوات من جيش الاحتلال على القرى الفلسطينية في المثلث (من بينها كفر قاسم، وكفر برا، والطيرة، وجلجولية، والطيبة، وقلنسوة)، وكان يقودها آنذاك الرائد شموئيل ملينكي الذي يتلقى الأوامر مباشرة من قائد كتيبة الجيش الموجودة على الحدود وهو المقدم يسخار شدمي.

توجهت مجموعة من الجنود إلى بلدة كفر قاسم وقُسمت إلى أربع فرق بحيث بقيت إحداها عند المدخل الغربي للبلدة، وأبلغ قائدُها الضابطُ يهودا زشنسكي “مختارَ” البلدة في ذلك الوقت وديع أحمد صرصور بقرار منع التجول وطلب منه إبلاغ السكان بالتزامه ابتداء من الساعة الخامسة.

أخبر صرصور الضابط زشنسكي بأن هناك أربعمئة شخص يعملون خارج القرية ولم يعودوا بعد، فأعطاه وعدًا بأن هؤلاء سيمرون بسلام لدى عودتهم ولن يتعرض لهم أحد بسوء.

لكن مساء ذلك اليوم شكّل مرحلة مفصلية في تاريخ كفر قاسم والشعب الفلسطيني عامة، ففي تمام الخامسة مساء دوّى صوت رصاص كثيف داخل البلدة فصمّ آذان معظم سكانها، إثر إطلاق الجنود النار على مجموعة من الأهالي كانوا عائدين من حقول زراعتهم في المساء إلى بلدتهم، فقتلوا منهم 49 شخصا وأصابوا العشرات بجروح بالغة، بذريعة خرق منع تجول لم يعلموا بإعلانه المفاجئ.

كان من بين قتلى مجزرة كفر قاسم مسنون و23 طفلا تتراوح أعمارهم بين 8-17 عاما، و13 امرأة، ولم يكن عدد سكان كفر قاسم آنذاك يتجاوز ألفيْ نسمة. وقد سقط عند المدخل الغربي للبلدة وحده 43 قتيلا.

ارتبطت المجزرة بأسماء عدد من العسكريين الإسرائيليين أمثال الضابط يسخار شدمي الذي استدعى شموئيل ملينكي وأبلغه بقرار تكليفه مهمة حراسة الحدود وفرض منع التجول في قرى من بينها كفر قاسم، ثم أعطى التعليمات بارتكاب المجزرة.

وقد حاولت الحكومة الإسرائيلية برئاسة ديفد بن غوريون إخفاء حقيقة مذبحة كفر قاسم، إذ نـُشر أول خبر عنها في الصحف بعد أسبوع من وقوعها أي يوم 6 نوفمبر/تشرين الثاني، أما تفاصيلها فمنعت الحكومة وصولها إلى الرأي العام إلى يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 1956.

لكن النائبيْن الشيوعييْن توفيق طوبي وماير فلنر تمكنا من كشف ملابسات الحادث بعد تسللهما إلى البلدة لاستقصاء الحقائق بشكل مباشر من الشهود والمصابين، وإعداد وثائق ليتم طرحها داخل الكنيست الإسرائيلي، وإرسال وثائق خاصة بالواقعة إلى وسائل الإعلام والسفارات الأجنبية وكافة أعضاء الكنيست (البرلمان).

واضطرت جهودُهما الحكومة إلى تشكيل لجنة لتقصي الحقائق والبدء في إجراء تحقيق أسفر عن محاكمة من اعتبرتهم الحكومة الإسرائيلية مسؤولين مباشرين عن المجزرة، فأجريت محاكمة صورية لهم حُكم فيها على الضابط شموئيل ملينكي بالسجن 17 عاما، وعلى جبرائيل دهان وشالوم عوفر بالسجن 15 عاما، وعلى الجنود الآخرين بالسجن لمدة ثماني سنوات.

أما قائد حرس الحدود المقدم شدمي -الذي أعطى الأوامر بالقتل- فقد تمت تبرئته من ارتكاب الجريمة وغُرّم بدفع قرش واحد، وقد قال -في حديث لصحيفة هآرتس الإسرائيلية- إنه نفذ “أوامر عليا” حين أمر جنوده بقتل المدنيين قائلا: “احصدوهم”.

ثم غُيّرت الأحكام الصادرة بحق مرتكبي الجريمة، حيث خُففت بعد الاستئناف لتصبح 14 عاما بحق ملينكي، وعشرة أعوام لدهان، وتسعة أعوام لعوفر. ثم خُفضت مرة أخرى باتجاه إلغائها نهائيا، إذ تدخل رئيس الدولة وخفض الأحكام إلى خمسة أعوام لكل من ملينكي وعوفر ودهان. وأطلِق سراح آخرهم مطلع عام 1960.

تخليد واعتذار

رغم مرور عشرات السنين على مجزرة كفر قاسم فإن البلدة -وكذلك مدن وقرى الداخل الفلسطيني عامة- ما زالت تشهد سنويا بالتزامن مع ذكرى المجزرة فعاليات واسعة إحياءً لها، تبدأ عادة بالخروج في مسيرة شعبية انطلاقا من مكان النصب التذكاري الذي أقيم في مكان حدوثها والمسمى “الفلماية”، وتنتهي بزيارة مقبرة الشهداء لقراءة الفاتحة على أرواحهم.

وينظم الفلسطينيون سنويا في الذكرى مهرجانات سياسية وفنية وفعاليات تثقيفية تعرف بها. وأنشئ في البلدة عام 2006 متحف للتعريف بشهداء الواقعة.

وقد أنجزت اللجنة الشعبية لإحياء الذكرى الـ60 للمجزرة (عام 2016) مشروع توثيق نوعياً يحاكي أحداث المجزرة، وقد سُمي “بانوراما الشهداء” وشارك في تنفيذه مختصون ومهندسون وخبراء. كما تم إطلاق صفحة خاصة على شبكات التواصل الاجتماعي تحت اسم “الذكرى الـ60 لمجزرة كفر قاسم- الصفحة الرسمية”، تخليدًا لتضحية الشهداء ونشرا للمعلومات الدقيقة بشأن المجزرة وتفاصيلها.

وبضغط من مساعي الأحزاب العربية في الكنيست الإسرائيلي لدفع الحكومة الإسرائيلية للاعتراف بمسؤوليتها عن الأولى؛ قدّم الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز -خلال زيارته لكفر قاسم عام 2007- اعتذارا عن المجزرة.

وفي عام 2014 شارك خليفته الرئيس رؤوفين ريفلين في مراسم إحياء ذكرى ضحاياها، فكان بذلك أول رئيس إسرائيلي يشارك في مراسمها.

وقد وصف ريفلين ما حدث بـ”الجريمة النكراء” التي تجب معالجة تداعياتها. إلا أنه لم يعتذر عنها معتبرا أن اعتذار سلفه  بيريز “يكفي”. وقال “جئت هنا اليوم كأحد أبناء الشعب اليهودي وكرئيس لدولة إسرائيل للوقوف أمام عائلات الضحايا والمصابين للشعور بألم الذكرى معكم”.

وأضاف ريفلين أن “القتل الخسيس في قريتكم كفر قاسم يعد فصلا استثنائيا وأسود في تاريخ العلاقات بين العرب واليهود الذين يعيشون هنا”. واعتبر أن “إسرائيل اعترفت بالجريمة التي ارتكبت هنا عن حق وعدل، واعتذرت عنها..، أنا أيضا أكرر ذلك هنا اليوم وأقول: لقد ارتكبت هنا جريمة  قاسية”.

ورغم ذلك فإن أهلي بلدة كفر قاسم ما زالوا يريدون اعتذارا أقوى مصحوبا بتحمل الحكومة للمسؤولية الأولى عما وقع في بلدتهم ولذويهم.

المصدر: وكالات